|
جزيرة القرصاية والعبور الثاني (المصدر: موقع مصراوي) |
يروج مؤيدو الدستور الجديد وصانعيه أكذوبة أن المحاكمات العسكرية للمدنيين
تم تقييدها في إطار الدستور الجديد وذلك لتجنب تكرار ما اقترفه نظام مبارك ومن
بعده المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية من جرائم تحت ستار هذه السلطة
الاستثنائية التي تتنافى مع أبسط الحقوق الدستورية والقانونية للمدنيين. وفي واقع
الأمر، فإن المتابع لتطور مسودات الدستور المختلفة يجد ان هناك تراجعاً في موقف
اللجنة التأسيسية في مجال حماية المدنيين من خطر المحاكمات العسكرية وخنوعاً منها لمطالب
البعض لتوسيع نطاق هذه المحاكمات مما يجعلها سلاحاً مسلطاً في يد السلطة ضد
المدنيين.
وبصورة اكثر تحديداً، إذا قارننا بين مسودتي الدستور في 11 نوفمبر 2012،
والمسودة النهائية الصادرة في 29 نوفمبر 2012، نجد التغييرات التالية:
مسودة الدستور المصري (11 نوفمبر 2012):
المادة 63: التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، وتكفل الدولة
تقريب جهات التقاضي وسرعة الفصل في القضايا، وتيسر ذلك لغير القادرين ماليا. ويحظر تحصين أي عمل أو قرار
إداري من رقابة القضاء. ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي؛ والمحاكم
الاستثنائية محظورة، ولا يجوز محاكمة مدني أمام قضاء عسكري.
المادة 199: ينظم القانون القضاء العسكري، ويبين اختصاصاته في
حدود المبادئ الواردة في الدستور، ولا يجوز بحال أن يحاكم أمام القضاء العسكري
إلا العسكريون ومن في حكمهم، على النحو الذي ينظمه القانون.
المسودة النهائية
للدستور المصري (29 نوفمبر 2012):
المادة 75: التقاضي حق مصون
ومكفول للناس كافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي وسرعة الفصل في القضايا. ويحظر تحصين أي
عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي؛ والمحاكم الاستثنائية محظورة.
(تم حذف: ولا يجوز محاكمة مدني أمام قضاء عسكري)
المادة 198: القضاء العسكري
جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في كافة الجرائم المتعلقة بالقوات
المسلحة وضباطها وأفرادها، وجرائم الخدمة العسكرية وتلك التي تقع داخل المنشآت
العسكرية أو على منشآت القوات المسلحة ومعداتها وأسرارها. ولا يجوز محاكمة
مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة ويحدد القانون
تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى. وأعضاء القضاء
العسكري مستقلون. غير قابلين للعزل، ويكون لهم كافة الحصانات والضمانات والحقوق
والواجبات المقررة للجهات القضائية.
(تم حذف: ولا يجوز بحال أن يحاكم أمام القضاء العسكري إلا
العسكريون ومن في حكمهم، وتم تغيير النص لما هو مبين بالمادة)
يظهر جلياً في
المسودة النهائية (29 نوفمبر 2012) كم التراجع عن الموقف المبدئي الذي اتخذته
الجمعية في مسوداتها الأولى لحماية المدنيين من سلاح المحاكمات العسكرية. ولا
يحتاج الأمر لكثير من التفكير لإدراك القوى التي ضغطت من أجل هذا التراجع ودور
السلطة الحاكمة في قبول هذا الاعتداء الصارخ على حقوق المدنيين لتمديد بقائها في
السلطة.
ما لا يدركه
الكثيرون أن الأغلبية من ضحايا المحاكمات العسكرية خلال الفترة الانتقالية والذين
بلغ عددهم في بعض التقديرات حوالي 12 ألف مدني، قد تمت محاكماتهم بناء على اتهامات
تربطهم بالاعتداء على أفراد، أو منشئات أو ممتلكات للقوات المسلحة والتي امتدت
لتشمل الاحتكاكات اليومية بين مدنيين وأفراد من القوات المسلحة أو حتى المشادات
العادية في أكمنة القوات المسلحة بالطرق العامة. ومن بعض هذه الاتهامات التي وردت
في حق مدنيين وقضوا عقوبة الحبس عنها: "ترديد هتافات مناوئة للمشير" وهو
ما يندرج تحت البند الفضفاض للمادة 198 لمسودة الدستور الأخيرة والتي تتحدث بشكل
مبهم عن "الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة" بصورة عمومية وشاملة.
وفي الحقيقة، لا
يهمني هنا تفاصيل النزاع القانوني حول هذه الأرض ومدى مصداقية رواية كل من الطرفين
حول حقوقه القانونية فيها، ولكن تهمني نقطتان:
النقطة الأولى:
تخص مبدأ التعامل مع "الأرض" كسلعة، وليس كحق. فجزيرة القرصاية والعديد
من الجزر النيلية ظلت مطمعاً للعديد من مخططات الدولة العمرانية طوال العقد الماضي
في إطار سياسات الدولة اليمينية (والمستمرة حتى الآن) في التعامل مع مواردنا
العمرانية والتي تتمثل في إغفال حق السكان في الأرض التي عاشوا عليها وطوروها في
العديد من المناطق العمرانية منذ عشرات السنين، وفي غياب تام للدولة ومسئوليتها عنهم
كمواطنين يستحقون القدر الأدنى من العيش في ظروف إنسانية ملائمة ويتمتعون بالأمان
في السكنى في مجتمعاتهم هذه التي استثمروا فيها كل ما يملكون.
تنظر الدولة في
هذا الإطار للأرض كسلعة يستحقها من يدفع أكثر وتصبح جزء من آليات السوق التي لا
يقدر عليها الفقراء، لذا نرى العديد من مخططات الدولة وقد حولت تلك الجزر في
مقترحاتها إلى منتجعات ومشروعات سياحية ينتفع بها رجال الأعمال من القادرين، ولا
يتضح لنا مصير الآلاف من المواطنين الذين سيتم تهجيرهم في إطار هذه المخططات.
النقطة الثانية:
تخص استخدام القضاء العسكري كأداة ضغط على سكان الجزيرة في إطار نزاع قانوني بحت
حول إثبات حق الملكية في قطعة أرض، وتحسمه درجات التقاضي الطبيعي التي يكفلها
القانون والدستور. نحن هنا أمام حالة نزاع بين أحد مؤسسات الدولة من جهة، ومجموعة
من المواطنين من جهة اخرى، تستغل فيها القوة المسلحة ويستغل فيها القضاء العسكري – كما تم استغلاله من قبل ضد
العديد من المدنيين – لإرهاب المواطنين والدفاع عن حقوق سواء مشروعة أو غير مشروعة
للدولة وسلطتها الحاكمة.
بعيداً عن المنظور
الضيق للصراع الديني-الليبرالي حول الدستور الجديد، تكمن خطورة مسودة الدستور
النهائية في تحالف أدوات التسلط والقهر العسكرية، مع التوجهات شديدة اليمينية
للسلطة الحاكمة الحالية والتي تأتي على حساب الطبقات الأضعف من الشعب المصري. فالصراع ضد
المحاكمات العسكرية للمدنيين معركته أوسع بكثير من قضية عسكرة الدولة. معركة
المحاكمات العسكرية تتسع لتشمل حقوقنا جميعاً في المساواة والعيش الكريم ضد دولة
تحاول بكل ما أوتت من قوة سلبنا تلك الحقوق.
لذلك اقول: لا
للمحاكمات العسكرية للمدنيين، ولا لدستور يغبن حقوق المصريين.